* طبيعة الدين :
يجب أن يعلم الذين يريدون جميع الناس على رأي واحد، في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين: أنهم يريدون ما لا يمكن وقوعه، ومحاولتهم رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الخلاف. وهي محاولة تدل على سذاجة بينة، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها.
وإنما أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة.
طبيعة الدين:
فأما طبيعة الدين، فقد أراد الله تعالى، أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح المؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلم فيما لا يقبل ذلك، إيمانا بالغيب، وتصديقا بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان:2).
ولو شاء الله لجعل الدين كله وجها واحدا، وصيغة واحدة، لا تحتمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد كفر.
ولكنه لم يفعل ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة، وطبيعة الناس ويوسع الأمر على عباده.
أجل لو شاء الله تعالى أن يتفق المسلمون على كل شيء، ولا يقع منهم اختلاف في شيء، ولو كان فرعا من الفروع، أو أصلا من الأصول غير الضرورية لأنزل كتابه كله نصوصا محكمات قاطعات الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه المحكمات ـ وهن أم الكتاب ومعظمه ـ وفيه المتشابهات، وهن أقله، وفي ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى.
فيقول تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (آل عمران: 7).
بل إننا نجد ـ قبل مرحلة الفهم والتفسير ـ مرحلة القراءة نفسها، فقد تعددت القراءات في كتاب الله إلى سبع، بل إلى عشر، وهي القراءات المتلقاة بالقبول من الأمة، ولم ير أحد من علماء المسلمين في ذلك أي حرج، لأنها كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ خلافها، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
وروى الجماعة مثله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضيته مع هشام بن حكيم.
قال العلامة ابن الوزير معلقا على هذا الموضع:
فهذا الخلاف الذي نهي عنه، وحذر منه الهلاك، هو التعادي. فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه، ألا تراه قال لابن مسعود: "كلاكما محسن" حين أخبره باختلافهما في القراءة؟ ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم بإحسانهما في ذلك الاختلاف، فالاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به منهما، فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين، وضعف الإسلام، وظهور أعدائه على أهله، والمحسن هو عمل كل أحد بما علم، مع عدم المعاداة لمخالفه والطعن عليه.
قال: وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين.